تنفرد الحرب الاسرائيلية على غزة بخصوصية استثنائية، ربما لم يسجل تاريخ حركة التحرر من الاحتلال والاستعمار الأجنبي مثيلا لها. ما يجعل لعملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها المقاومة الفلسطينية سابقة قد تصلح دروسا للمستقبل.
وأوجه الاختلاف عديدة، أولها أن مساحة غزة قليلة جدا حوالي 365 كيلومترا مربعا مزدحمة بالسكان، وتكاد تكون أكثر كثافة سكانية على مستوى العالم اذ يبلغ عدد السكان أكثر من مليوني مواطن! والعنصر الثاني الذي يميز هذه المعركة، أنها أرض مفتوحة ليس فيها جبال او غابات أو صحراء، يختبئ فيها المقاومون أو ينسحبوا اليها بعد تنفيذ عملياتهم ضد العدو، لكن المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها «كتائب القسام» ابتدعت صيغة بديلة لتعويض التضاريس الجغرافية، وهي انشاء شبكة أنفاق تحت الأرض يقارب طولها نحو 500 كيلومتر، يستخدمها المقاتلون في الدفاع والهجوم، مجهزة بالمعدات والاسلحة وورش ومصانع انتاج الاسلحة البسيطة التي تتوافق مع أساليب حرب العصابات، حيث المقاومة وقطاع غزة تحت الحصار منذ 17 عاما، ولا يوجد أي وسيلة للتزود بالسلاح ومستلزمات الحياة الاساسية، بالاضافة الى ذلك فقد أبدع المقاتلون باستخدام الأبنية والمنازل التي دمرها جيش الاحتلال بوحشية قل مثيلها، وأصبحوا يستخدمونها وكأنها غابات لمقاتلة العدو والتصدي لقواته وجها لوجه، أو من «مسافة صفر» وهو الاصطلاح الجديد الذي استحدثته المقاومة ودخل في الأدبيات العسكرية، ويعني الالتحام المباشر مع قوات الاحتلال.
ويمكن مقارنة حالة غزة بالتجربتين الجزائرية والفيتنامية، فالثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي كانت تتحرك في مساحة شاسعة، من الأرض والتضاريس الطبيعية كالجبال والغابات والصحراء الواسعة، كان الثوار الجزائريون يستخدمونها ووفرت لهم مرونة للتحرك ومهاجمة مواقع جيش الاحتلال الفرنسي، وكذلك الحال بالنسبة لجغرافية فيتنام التي تتضمن مساحات واسعة من الاراضي، وفيها الجبال والغابات، لكنها تشترك أيضا مع تجربة المقاومة الفلسطينية في غزة، باستخدام الانفاق تحت الارض، في القتال ضد قوات الاحتلال الاميركي.
كانت هذه الخصوصية لتجربة المقاومة في قطاع غزة، «تجربة مرة» ومفاجأة صادمة لقوات الاحتلال، تسببت بتكبيده خسائر كبيرة في الضباط والجنود بين قتيل وجريح ومعاق نفسيا وبدنيا، فضلا عن الخسائر الكبيرة في الدبابات والاليات العسكرية المختلفة، وهي خسائر لم تخطر في بال قيادات العدو العسكرية والسياسية، بل تسببت بجدل واسع وانقسامات بين النخب السياسية والاعلامية وحتى بين الجنرالات السابقين داخل المجتمع الاستيطاني، ذلك انه لم يسبق لهذا الجيش الذي كانوا يزعمون «أنه لم يقهر» ويمتلك أحدث الاسلحة الأميركية والغربية، أن يتكبد هذا الكم من الخسائر في حرب عصابات يخوضها مقاتلون بأسلحة بسيطة، ويمضي أكثر من أربعة أشهر فشل خلالها بتحقيق أي من الاهداف التي أعلنها للحرب المجنونة، وهي تحرير الأسرى بالقوة والقضاء على حركة حماس وتهجير سكان القطاع، ولذلك كانت أهدافه من القصف الوحشي الجوي والبري والبحري، ارتكاب المجازر والابادة الجماعية بحق المدنيين ودفعهم الى النزوح من مكان الى آخر داخل القطاع وملاحقتهم بالقصف الهمجي، وتحويل الحياة في القطاع الى جحيم، حيث لا غذاء ولا ماء ولا أدوية بعد أن دمرت طائرات العدو المستشفيات والمرافق الصحية، وحتى مدارس وكالة الغوث الدولية «الاونروا» لم تسلم من القصف والتدمير، بهدف قتل أكبر عدد من سكان القطاع الذين نزحوا اليها مفترضين أنها آمنة!! وكانت هذه الوحشية عقابا للمدنيين بدون مبرر، وأداة ضغط على المقاومة لكي تستسلم!
ولان دولة الاحتلال محمية بالغطاء الاميركي السياسي والعسكري والدبلوماسي و"الفيتو» الاميركي جاهز، لاحباط أي مشروع قرار في مجلس الامن يدينها أو يطالبها بوقف اطلاق النار، فانها تمعن برفض كل القرارات الدولية، وكان أكثرها قوة وتعرية سياسية وأخلاقية لهذا الكيان والدول الداعمة له، قرارات محكمة العدل الدولية التي صدرت مؤخرا نتيجة لدعوى رفعتها جنوب افريقيا، بتهمة ارتكابها عمليات ابادة جماعية بحق سكان قطاع غزة.